[size=21]
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد ذكر القصة في سورة "الكهف"، بعد قصة أصحاب الكهف:
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا
لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ
لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ
مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ
السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا
مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ
عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ
يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ
بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾
قال بعض الناس: هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعا. والجمهور أنه أمر
قد وقع، وقوله﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا﴾يعني لكفار قريش، في عدم اجتماعهم
بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم، وافتخارهم عليهم كما قال
تعالى﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ﴾كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى، عليه السلام،
والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين، وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا،
ويقال: إنه كان لكل منهما مال، فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته
ابتغاء وجهه، وأما الكافر فإنه اتخذ له بستانين، وهما الجنتان المذكورتان
في الآية، على الصفة والنعت المذكور؛ فيهما أعناب ونخل تحف تلك الأعناب،
والزروع في خلال ذلك والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد
استوسقت فيهما الثمار، واضطربت فيهما الأنهار وابتهجت الزروع والثمار
وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلا له:
﴿ أَنَا
أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾
أي
وأمنع جنابا. ومراده أنه
خير منه، ومعناه، ماذا أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته
فيه؟ كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي. فافتخر على صاحبه ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾أي؛ وهو على غير
طريقة مرضية قَالَ ﴿مَا
أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾
وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة مائها وحسن نبات أشجارها؛ ولو قد بادت
كل واحدة من هذه الأشجار لاستخلف مكانها أحسن منها، وزروعها دارة لكثرة
مياهها. ثم قال:
﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ
قَائِمَةً﴾ فوثق بزهرة الحياة الدنيا
الفانية، وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة، ثم قال: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا
مُنْقَلَبًا﴾
أي؛ ولئن كان ثم آخرة ومعاد فلأجدن هناك خيرا من هذا. وذلك لأنه اغتر
بدنياه، واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده،
ولما اغتر هذا الجاهل بما خوله الله به في الدنيا، فجحد الآخرة وادعى أنها
إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أي؛ يجادله ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾
أي: أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم صورك
أطوارا حتى صرت رجلا سويا سميعا بصيرا، تعلم وتبطش وتفهم، فكيف أنكرت
المعاد والله قادر على البداءة﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾
أي؛ لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا أي﴾؛ لا أعبد سواه، واعتقد أنه يبعث الأجساد بعد
فنائها
ويعيد الأموات ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا
في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول
جنته فقال:
﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ
جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو
حاله أن يقول كذلك.
ثم قال المؤمن للكافر:
﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ
يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾
أي؛ في الدار الآخرة ﴿وَيُرْسِلَ
عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾
قال ابن عباس والضحاك وقتادة: أي؛ عذابا من السماء. والظاهر أنه المطر
المزعج الباهر، الذي يقتلع زروعها وأشجارها
﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا
زَلَقًا﴾
وهو
التراب الأملس الذي لا نبات فيه
﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا
غَوْرًا﴾
وهو
ضد المعين السارح
﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ
طَلَبًا﴾
يعني، فلا تقدر على استرجاعه.
قال الله تعالى: ﴿وَأُحِيطَ
بِثَمَرِهِ﴾
أي؛ جاءه أمر أحاط بجميع حواصله وخرب جنته ودمرها﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾
أي؛ خربت بالكلية،
فلا عودة لها، وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال:
﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَدًا﴾وندم على ما كان سلف منه
من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم، فهو يقول:
﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾
قال الله تعالى:
﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾
هُنَالِكَ أي؛ لم يكن له أحد يتدارك ما فرط من أمره، وما كان له قدرة في
نفسه على شيء من ذلك، كما قال تعالى:
وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى
الحياة الدنيا، ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل طاعة الله والتوكل
عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.
وفيها، أن من قدم شيئا على طاعة الله والإنفاق في
سبيله، عذب به، وربما سلب منه؛ معاملة له بنقيض قصده.
وفيها، أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق، وأن مخالفته
وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة.
وفيها، أن الندامه لا تنفع إذا حان القدر، ونفذ الأمر
الحتم.
[/size]